
الصوت وحده ما يعبرُ بالإنسان إلى كينونته، ووجوده المتميز في هذا الكون، واللغة واللحن والموسيقى تشكّل سردية الكائن، فما بالنا بصوت المرأة، الذي لطالما حاولت المنظومة المجتمعية تقليصه وإبعاده، إلى حد الخنق في أغلب الحالات؟
ومع رحيل الفنانة الشعبية اليمنية تقية الطويلية، لا نخسر فنانة فقط، بل نخسر تاريخًا جريئًا للمرأة اليمنية. تنبع عظمة وأهمية صوتها من كسره حواجز الجدران، وقدرته على الانطلاق والتحليق خارجًا من المجالس النسائية المغلقة والأعراس، ليتربع فوق خشبة المسرح بعد عهد من الظلام مرّت به اليمن في فترة الحكم الإمامي، حُرّم فيها الغناء، بل حُرّمت الحياة الكريمة للشعب اليمني.
تَقية الطَوِيْلِيَّة فنانة يمنية، من رائدات الغناء الفلكلوري الشعبي، الخاص باللون الصنعاني، أُطلِق عليها ملكة الغناء النسائي اليمني. وُلدت في أربعينيات القرن الماضي في أحد أحياء مدينة صنعاء القديمة لعائلة بسيطة، وقد أسهمت الفنانة بشكل كبير في إحياء الأغاني التراثية اليمنية.
ترحل تقية الطويلية بعد أن كسرت حواجز العيب المجتمعي الذي اعتبر كل من غنّت - وإن كان ذلك داخل مجالس مغلقة خاصة بالنساء فقط ـ امرأة من طبقة دنيا في السُّلّم الاجتماعي.
الطويلية أول فنانة غنّت في بيت الإمام حميد الدين، حين سمع نجله "علي" عن صوتها، استدعاها لتغني في مجلس النساء، في هذه المفارقة لتحريم الغناء الذي كان في عهد الإمامة في اليمن، كان القَدرُ يسطر عهدًا جديدًا لهذا الصوت النسائي، كما كان يسطر في الوقت نفسه عهدًا جديدًا لليمن، وموعدًا لانعتاقه أيضًا بقيام ثورة السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر)، وانطلاقة الطويلية إلى عالم الفن الذي عشقته منذ الصغر، فكانت في الأعوام الأخيرة من عمر حكم الإمامة في نهاية الخمسينيات.
تعاون جيل الرواد
جيل من رواد الفن الغنائي اليمني صعد بالطويلية، كان أوّل تعاونها مع الفنان الكبير محمد حمود الحارثي الذي سمعها لأول مرة تغني في مجلس نسائي، وسأل عنها، وحين استدعاها، بعد أن قال: "إنّ لهذا الصوت مستقبلًا مشرقًا"، عرض عليها أن يُسجلّ لها أسطوانة في وقت كان فيه تسجيل الأسطوانات قليلًا جدًّا، وحين كان الخوف ما يزال يحاصرها من أخيها الذي يلاحقها أينما ذهبت للغناء، قالت له: "لا يسمع صوتي في الشارع"، فطمأنها الحارثي.
قاومت الطويلية الموت أكثر من مرة، وترحل اليوم في صنعاء التي تشهد عودة الإمامة، ربما كان رحيلها أدعى لهذا الشعب أن ينتفض ضد من يخنق صوته، ليس في الغناء فقط.
سجلت تقية الطويلية أوّل أسطوانة لها بعنوان: "لا تسألوني كيف حالي اليوم... والله يا عيني ما ذاقت النوم". هذه الأغنية الأولى التي سمعتها وهي تُنقل فوق عربة الإسعاف بعد أن سُقيت سمّاً وُضع لها في الماء، عانت منه مدة عامين، ولكنّها عادت إلى الفن مرة أخرى، ولم يثنها الموت عن مواصلة شغفها، بل كان الفن حاميًا لها منه.
صوت المدرهة (الأرجوحة)
لحّن لتقية الطويلية العديد من الفنانين اليمنيين الكبار، على رأسهم محمد حمود الحارثي وعلي السمة، والآنسي، وغيرهم الكثير، وهي أول من أشارت باستخدام "الصحن" كإيقاع مصاحب للعود وأتقنته بدقة. واشتهرت بزفة العروس في الكثير من أعراس العاصمة صنعاء.
ومن يستمع لها في الأغنية التراثية التي تصاحب الحجاج، والتي تُعرف شعبيًا "بالمدرهة"، وكانت دويتو مع الفنان رجب علي عوضة، يستمع لذلك الشجن المؤدّى بنغمات صوتها المتماوجة، تنساب من منحدرات الجبال بشكل تلقائي وكأنّه الطبيعة التي تتحد مع روح الفنان.
شاركت الطويلية مع الفرقة الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة بالعاصمة صنعاء، وغنت للإذاعة والتلفزيون، ومثلت اليمن مع الفرق الفنية اليمنية في عدد من الدول العربية والأجنبية، وأُجرِي معها العديد من المقابلات في الإذاعة والفضائيات والصحف والمجلات، حتى أنّ الفرنسيين وثقوا فنها ومسيرتها الغنائية من خلال تسجيل أغانيها على الأسطوانات.
تقية الطويلية لم تكن تغني فقط، بل كانت توثق موروثًا شعبيًا غنيًا، والأهم من ذلك أنّه كان عبر امرأة يمنية تقتحم الساحة الفنية، وتشارك في تأسيس عهد جديد للنساء في اليمن.